"عبد الله ، عبد الله أصحي يللا صلاة الفجر " كان عمرو ينادي عليّ، فأفقت وذهبت لأتوضأ، بعد الصلاة كنت على وشك أن أعود للنوم ولكنني رأيتهم مجتمعين فى الخارج، فنشطت وغلبت نومي وذهبت لأجلس معهم ، مر قليلاً من الوقت الممتلئ بالنكات والضحكات العالية ثم أتي الينا جمعه يخبرنا أن الإفطار جاهز، فطلبنا منه أن يأتنا به ، جاء الإفطار على طبلية طويلة جداً مستطيلة الشكل تكفي أن يجتمع حولها من 10-12شخص يحملها اثنين من العمال. كان الأكل عينات يمكن أن يستخدم فى الحلفان عليه أكثر وأنفع من أن تأكله . فكان عبارة عن مثلث جبنة و"طقطوقة " بها خمس حبات فول على الأكثر ونصف قرص طعمية؛ الطعمية بالذات اتضح لي أن وصلهم فى سيوة شكلها فقط وليس مكوناتها ، فطعمها كان لا يمت بأي صلة للطعمية المصرية لا من قريب ولا من بعيد ، كان هذا لكل واحد فينا ولكن كنا جميعا نتشارك فى طبق به بعض من مربي الفراولة.
أكيد لا تسألني ماذا أكلت ولكن إذا أصررت أن تعرف ، فجهز نفسك ، طبيعي الطعمية لم أقترب منها، والفول كذلك ، فأخذت بعمل سندويتشات جبنة بمربي . فأدم وزيزى كانا لا يأكلان الجبنة فكانت مصلحة لي. المضحك فى الموضوع أنني كنت أضع المثلث الواحد بنقطتين أو ثلاث من المربي فى رغيف بالكامل. فالجوع فى الصحراء كافر بمعني الكلمة فيجب أن تتحصن جيداً. بعد الأكل أرتدينا المايوهات وذهبنا لننزل فى العين التي بالمعسكر.
وضعت قدمي أولاً فى الماء ، فكان ساخنا بشكل فظيع ، وأنا متعود أن استحم صيفا وشتاءاً بماء فاتر ، فلا أصف لك شعورى حينما نزلت بكاملي فى العين ولكنك تشعر باسترخاء فى جميع عضلات جسمك وأن كل ما بك من إرهاق وآلام يذوبان فى الماء.
خرجنا بعد حوالي نصف ساعة ، وبعد أن جففنا كانت قد وصلت سيارات ال"لاند كروزر" اللاتي ستقلنا فى رحلة السفاري، كانوا 4 سيارات فى انتظارنا . "عبده " الذى كان جالساً يغني ليلة البارحة واحداً منهم بسيارته فعلي الفور ركبت معه. وركب معي أيضاً بهاء وحازم وعمرو وعبد الرحمن الذى فى الأصل أسمه (عمر) وعمر منصور.
انطلقنا متجهين نحو الصحراء ، كانت المناظر من حولي خلاّبة جداً، كان هناك سلسلة جبال شكلهم يقترب كثيرً من شكل أهرامات الجيزة وكأنهم أهرامات ربانية الوقت كان يمر ممتعاً حيث كان عبده يشغل أغاني تتواءم مع جو الصحراء وكنا كلنا نغني ونصفق معهاً لم تكن القيادة عادية فى الصحراء فكانت شابه بالمغامرة وكان عبده سائقاً متمكناً للغاية (حفظه الله) فكان يقفز من على الجبال الرملية بالسيارة ثم يتسلق الآخر ثم يمشي بشكل دائرى ، كانا التشويق والإثارة يمتزجان مع المتعة فتشعر بشعور لا يمكن وصفه حتي تجربه بنفسك. توقفنا عند سفح جبل يمتلأ باطنه بفتحات تشبه الشبابيك وعرفنا بعد ذلك أنها مقابر الرومان . صعدنا الجبل وتوجهنا نحو صخرة ، كان بها آثار أقدام يرجع عمرها الى عشرة مليون سنة. كانت تلك الآثار تشبه القدم الأدمية كثيراً ولكنني شككت فى صحة الكلام بأن تعود هذه القدم لأدمي عمره 10 مليون سنة . لأن من المفترض أن الإنسان يصغر فى الحجم كلما تطور ومرت السنون لكن هذه القدم كانت أصغر من قدمي. تركتهم يتصورون حول الأثر ومشيت بعيداً عنهم حتي وصلت إلى حافة الجبل ، وأطلقت العنان لفكرى متأملا منظر الصحراء البديع وتلك النباتات الصغيرة التي تدل على وجود الحياة فى أكثر الأماكن بؤساً وذلك الجبل الذى يقف شامخاً وتأتي من وراءه الشمس ، كامرأة وضعت رأسها على كتف رجل شديد البنية فينطلق نور وجهها ليضئ الكون بأسره، وحبات الرمال التي تركب الريح لتتحرك مفعمة بالحيوية والنشاط ، كالصبية الصغار يلعبون ويركدون منظر بديع كل تلك العظمة التي تراها نصب عينيك تجعلك ترتجف من داخلك وتجعل كل خلية فيك تنطق بورع شديد وتقول "سبحان الله الأعلى" عدت إليهم والتقطنا بعض الصور ثم نزلنا وركبنا ثانية السيارات وانطلقنا مجدداً.
وصلنا الى بحيرة شديدة الاتساع، توقفنا هناك ، كانت المياه مالحة فلم تكن مشجعة على النزول فيها. فقط وقفنا فى المياه حتي لامست أقدمنا أو أعلي قليلاً. دقائق والتفت ورائي فرأيت السيارات قد عدلوا أماكنهم وشكلوا شكل "مربع ناقص ضلع". وربطوا فى سقف السيارات خيمة وأعدوا مكاناً للجلوس ، ثم سمعت صوت حميدة ينادي علينا ويقول الأكل جاهز "أكل " !!! كذبت أذناي أولاً ، قلت لعلني سمعت خطأ توجهت نحوهم على الشاطئ، فوجدت طبلية مستطيلة كتلك التي بالمعسكر وقد وضع عليها أطباق من الجبن المقطع عليه الطماطم والشبت والخضرة والبصل وأطباق من التونة المعدة بنفس الطريقة وخبز ساخناً وعصائر وفاكهة وكأنها منحة ربانية والله كان قلبي يرقص فرحاً من المنظر وأكاد ان اسمع معدتي وهي تطلق الزغاريط فرحة بكل ما تراه. فكنت من شدة الجوع قد نسبت الإحساس بالجوع. لم آكل فى حياتي بمثل هذا الاستمتاع، لقد كنت أتذوق اللقمة آلاف المرات وهي بفمي، حقاً الأكل له طعم آخر بعد الجوع. كان هذا أفضل بالنسبة لي من أفخم مطعم بجوار برج أيفل فى باريس مطلا على النهر مباشرة.
أكلت وارتويت حتي ظننت أنني أحلق فى السماء من نشوة الفرح وكانت مثل كل مرة نجتمع لنأكل فيها ، فالبعض لا يأكل الجبن وبعض أخر (من البنات) يستحين أن يأكلا أمام الشباب ، كان كله يصب فى مصلحتنا أو مصلحتي شخصياً، صلينا الظهر ثم انطلقنا بعدها نحو عين فى واحة وفى وسط الصحراء وهنا حقاً رأيت ما لا يستطيع قلما أن يوصفه لون الرمال الأصفر من حولك كلما مددت بصرك ، ثم بقعة خضراء يتضح لك أنه نخل عندما تقترب منها ، يتوسطه عين من الماء ، أعلم أنك لم تشعر هذا الشعور إلا إذا ذهبت ورأيته بنفسك . تلك العين التي ظللها النخيل كانت ساخنة جداً مثل السونا بالضبط اكتفيت بالجلوس على ضفافها وإنزال أقدامي فيها. نزل طوني ووسام فى العين، صليت العصر ثم انطلقنا بعدها إلى عين ثانية ، كان منظرها أبدع وأروع وكانت أوسع بكثير من أي عين أخرى . حيث كان من حولها جميعاً صحراء . اللهم إلا بعض النباتات المائية التي تنمو على ضفافها بكثافة ، كان منظرها مشجع جداً حتي أنزل فيها، ولكن بمجرد أن لامست قدماي الماء، كاد عقلي أن يذهب وسبحت فى عالم آخر من الأفكار. كان الماء شديد البرودة وكأنك تنزل فى المحيط الأطلنطي، يا الله لماذا تفعل فىّ كل هذا لقد أريتني من عظمتك فى بضع ساعات ما لا يتحمله قلب بشري ، أم تريدني أنتقل من مرحلة الإسلام لمرحلة الإيمان فلهذا تريني عظمتك وتجعلني أتفاعل مع قدرتك ، أم تردني أن أفهم فضل كلمة التدبر التي طالما عجزت عن فهمها واستيعابها، أفقت من تيهتي وحيرتي على ندائهم لي كي أنزل الى الماء ، ولكنني كنت بنصف عقل وقتها ، كنت أتكلم معهم ولكنني متمعن النظر فى كل ما حولي من آيات فى الكون، فها هي الشمس عمودية وفى شدة توهجها ، والرمال أمامي تكاد أن تطقطق من شدة سخونتها ، والجبل من جانبي أراه يعرق فبخار المياه يحجب رؤيته نوعا ما ، وأنا واقف فى ماء بدأت أرتجف فيه من برودته وكل هذا ما هو إلا نقطة على الأرض ، التي هي بدورها نقطة فى مجره، والمجرة نقطة ضمن مجرات كثيرة فى سماء الكون الفسيح. خرجت من الماء وما زادني منها إلا إيمانا وتسليما جففنا فى اقل من دقيقتين من شدة حرارة الشمس وقتها وركبنا السيارات، ثم مررنا بحجر غريب وتوقفنا عنده ، فتبين لي أنه ليس حجراً عاديا ولكن نيازك من السماء ، كان ملمسه حجرى عادي ولكنك إذا أمعنت النظر فيه وجدت به ألونا كثيرة وغير متدرجة فترى اللون القرمزى مفصول عن لون أسود بلون رمادي خفيف. كنت على وشك الإصابة بسكتة دماغية من كل الذى أراه.
مشينا بعد ذلك فى اتجاه جبال الرمال الناعمة لنمارس رياضة التزحلق على الرمال ، توقفنا فجأة ثم قال "عبده" لي كل الذى نسير فوقه الآن كان بحرا فى يوم من الأيام، ففتحت باب السيارة ، فرأيت ما جعلني مؤمنا ومقراً و محدثاً بعظمة الله وقدرته وضآلتي وسوء جهلي ، لقد كنا نسير على صدف وقواقع فى وسط صحراء جرداء ، كنت لا أملك الطاقة لأضع قدماي وأقف على الأرض ، سامعاً فى أذناي قوله تعالي " إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنيّ تؤفكون".
أضاف عبده قائلاً" لقد تم اكتشاف وادياً لأسماك القرش هنا فى سيوة ، فالتفت اليه مندهشا وهل سنذهب اليه فرد نافيا ، "لا إنه بعيد ولن يمكننا الوقت من بلوغه قبل الغروب" فحمدت الله فى نفسي إننا لم نذهب الى هناك لأنه هو الوحيد كان يعلم ما يمكن أن يصيبني لو رأيت أكثر من هذا يومها، ولكن كان بداخلي حزن قليل لأنني بطبعي أتشوق لمعرفة المزيد والفضول كان بداخلي مهموماً لأنني لم أشبعه أكثر من حاجته.
وصلنا الى جبال الرمال الناعمة ، وكانت الرمال أنعم بكثير مما توقعت ، فكانت مرهقة جداً فى الطلوع لأنك كلما غرست قدمك فيها لتصعد ، تألمت الرمال من تحتك وأخذت تدافع عن نفسها بدفعك نحو الأرض . فكان على أن أكون لطيفاً وخفيفاً على تلك الحبات، فما هي الا ان أضع قدمي ثم ادفع جسدي لأعلي وأضع الأخرى سريعاً وهكذا ، وكأنها تتبع قاعدة "لا تؤلمني ولا أؤلمك" لم أتزحلق كثيراً يومها أتوقع أنهم كانوا خمس مرات فقط ، لقد استهلك عقلي يومها كل طاقة جسدي ، استلقيت على ظهرى مستمتعا بشكل الشمس والألوان التي تضفيها على السماء حين تغيب ، وسافرت الى السماء متذكراً ومتأملا كل ما رأيته فى ذلك الصباح ، كنت فى طريقي عائداً نحو السيارة ثم إذ بابتهال تتعثر فى شئ وهي تنزلق ثم ترتطم بالأرض بشدة، كنت متابعاً لها حينما وقعت وكيف وقعت ، فلم أجزع ذهبت نحوها فوجدتها مستلقية على بطنها وتتألم ، انتظرنا بجانبها حتي عدلت نفسها وجلست ، فكانت تتألم من قدمها، جعلتها تحركها بعض الحركات التي تعلمتها فى كلية الطب للتأكد أنه ليس هناك شرخ أو كسر. ونحن جالسين بجوار ابتهال جاءت ميادة بروحها الطفولية المرحة مقررة أن تنزل جزءاً من المنحدر متدحرجة على جانبها ، فنظرنا لها جميعا وهي تتدحرج وأنفرطنا فى الضحك ، حتي ابتهال نست آلامها من المنظر وانفرطت معنا فى الضحك . فكانت ميادة لا تتدحرج نحو الأسفل ولكنها كانت تتدحرج بشكل أفقي. آتت لنا السيارة وصعدنا فيها منطلقين نحو المعسكر. كانت الصحراء فى ظلام الليل مع أضواء السيارات وكأننا نتحرك فى صندوق مغلق من ثلاث جهات وصلنا الى المعسكر فصلينا المغرب وانتظرنا وجبة العشاء . كان العشاء ليلتها " فراخ مردم" وهي عبارة عن فراخ تشوى على الزلط والرمال والحجر . كان طعمها لذيذ، أكلنا وجلسنا مستلقين على ظهورنا ، منهكين من كتر التعب. كنا عندما وصلنا الى المعسكر ، وجدنا ضيوفا جدد وكانوا رجالا كباراً فى السن ، آتانا واحداً منهم يدعونا للانضمام لهم ويريد منا أن نغني ونرقص فلما تعجبت من كلماته ، قال لي أنهم أعضاء المجلس المحلي فى الإسكندرية ويريد منا أن نلطف عليهم الجو ، كما سمع عن ما حدث فى الليلة الماضية نظرت اليه نظرة اشمئزاز ورددت عليه قائلاً " لا بنغني ولا بنرقص " ، فكان بداخلي يراودني إحساس أننا مطلوب منا تسلية الملك وحاشيته ، فتلعثم الرجل فى الكلام وقال " يعني أنتوا شيوخ" قلت له" آه مش شايف قال محاولاً تخليص نفسه من المأذق "طب صليتوا العشاء" قلت له محدقاً فى عينيه التي ملأتهما الحيرة والخجول" رايحين نصلي" عدنا للحديث والكلام والسمر والضحكات وقليل من الغناء ، فوجدت من غير إحم ولا دستور ذلك الأعضاء ينضمون الى مجلسنا ، فأنا لا أعلم ماذا قال لهم هذا الرجل بالضبط قمنا جميعاً متجهين الى خيامنا وصلينا العشاء.
ثم أخذت بعض الشموع واقترحت على بهاء وعمرو أن نذهب ونجلس بجوار العين فرحبا بالفكرة وانضم إلينا عبد الرحمن وابتهال وأميمة واختها أميرة وحازم. جلسنا فى شكل دائرة تتوسطنا الشمعة ثم اقترحت علينا ابتهال ان نمارس رياضة "اليوجا" لمدة خمس دقائق. كانت لحظات جميلة فهي رياضة تشعرك بالاسترخاء وتجعل عضلاتك تتنفس بشكل هادئي . ثم اقترحت أنا بعدها أن نلعب التداوى بالجماعة" وهي أن يحكي كل واحد فينا أكثر مشكلة أرقته فى الأيام الأخيرة ونحاول جميعا حلها معه فبدأ بهاء بطرح مشكلته وتبعناه واحداً تلو الآخر ، ولكنني لا أستطيع أن أحكي لك أيا منها لأنها من قواعد اللعبة أن ننسي كل شئ بعد اللعبة ولا نتكلم فيه مع أي شخص آخر . كان حازم غريبا جداً بالنسبة لنا جميعاً فهو لم يشاركنا فى طرح مشكلة ولم يشاركنا أيضا حل أيا من مشكلاتنا كان يكتفي فى كل مرة بقول كلمة "Pass" أو "اعبروني" ولكن من حقي الآن أن أقول لك تعليقي على كل واحد فيهم أو من استطعت أن أبني عنهم فكرة وانطباعاً . (عبد الرحمن) ، أعجبني أكثر ما قاله فإن مرجعيته الفكرية دينية ومرتبة ولكنه ينقصه الفلسفة الحياتية أو الثقافة الاجتماعية حتي يوظف الدين فى الدنيا، وأنا واثق أنه لو فعل هكذا سيكون له فكرا منفردا ودسماً . أما عمرو فهو من أولئك الناس الذين يتكلمون كثيراً وترى أن الكلام عائماً، ولكن بين السطور يقول حكماً وليس كلاماً فيجب أن يكون الواحد منتبهاً جدا معه إلا وتاه من غير رجعة.
أما حازم فإنه إنسان قارئاً وأظن أيضاً أنه قرأ كثيراً ، ولكنه يواجه مشكلتان: المشكلة الأولي أنه مصدق لكل ما يقرأه ولكن للقراءة فن خاصة كتب التنمية البشرية لأنها دائماً ما تبعث فينا بأمل زائف لا يمكن تطبيقه فى الحياة اليومية وسرعان ما نراه يتحطم أمامنا على صخره الواقع. أما المشكلة الثانية : فإنه بدأ ينفصل عن عالمنا ولا يشاركنا فيه وأنا لا أعلم إن كان يرانا أقل منه ثقافة أو يفضل الصمت من باب اللا غلط ولكني تعلمت يوما أن قيمة المثقف الحقيقية تتحد وفقاً لعلاقته بالناس ، إن المثقف الذى ينفصل عن الشعب ويحتقره يفقد قيمته وتأثيره فوراً ، مهما تكن درجة موهبته أو ثقافته.
أما عندما بدأت ابتهال فى الكلام كنت أشعر أنني أعرفها منذ سنوات بعيدة ، هذه الطريقة فى الكلام سمعتها من قبل لم استطع حينها أن أميز طريقة كلامها.
ثم نأتي إلى أميمة؛ قبل أن أتكلم عنها أريد أن أشركك فى طريقتي الخاصة جداً لتقسيم الشباب المصرى . فهناك شباب مفعم بالأمل ولديه خطة وبدأوا فى تنفيذها، وهناك شباب آخر مفعمون بالأمل ولديهم خطة ولكن لا يعرفون من أين يبدؤوا وللأسف تلك الفئة سرعان ما يفقدون الأمل إلا ما رحم ربي. وشباب آخر مفعمون بالأمل ولكن ليس لديهم خطة وبالتالي لا يعرفون من أين يبدؤوا. وآخرون ليس مشغولين أصلا بالبلد ولا يهمهم مصيرها من الأساس. أظن أن أميمة كانت من الفئة الثانية وكانت مفعمة بالأمل ولديها خطة ، ولكنها للأسف يئست من وجود خيط البداية فضاع الأمل وطويت الخطة. لم يعد فى هذا الجمع إلا أميرة وبهاء ولكنني لم استطع أن أكون عنهم انطباعا أقدر أن أبرهن عليه.
عدنا إلى خيماتنا ثم جلسنا جميعا فى "القعدة العربي" حيث كان قد عاد من البلدة آدم وكان بصحبته أربعة من بنات الفوج ، كن طلبن منه أن يصطحبهن ليعودن للموتيل "نور الواحة" وشراء بعض الأشياء اللازمة من البلدة بعد ذلك انصرف الأغلبية إلى النوم ولم يبقي مستيقظاً إلا أنا وآدم وبهاء وحازم وهبة ومنة وزيزى وعبد الرحمن، ابتعدنا قليلاً عن المعسكر فى اتجاه العين ولكننا لم نصل إليها جلسنا على الرمال فى ضوء القمر وتحت سماء تزينت لنا خصيصا فضمت أكثر عدد من النجوم الذى لم أرى مثله فى حياتي. بدأنا نسأل كما كنا نلعب قبل قليل وبدأ انطباعي عن حازم وعبد الرحمن يرسخ تماما. وأخذت انطباعات جديدة عن باقي الأصدقاء فزيزي أما حنونا جداً فى تعاملها مع منة ( أختها التي تصغرها)كانت الأمومة طاغية على علاقة الأخوات. أما منه فهيا مفعمة بالحيوية وأرى فيها إقبالا على الدنيا وأمالا تكفي جميع المحبطين.
أدم قصة جميلة كتبتها الطبيعة ورسمت معالمها وزخرفتها المدينة والناس . شخصية تمتزج بين الشباب والطفولة، وقراراته تمتزج أيضاً بين الإصرار والمرونة . ولكن لم استطع أيضاً أن ابني انطباعا عن هبة ولا عن بهاء ثانية ، يا لك من شخصية يا بهاء ، إما إنك شخصية معقدة وصعبة القراءة أم أنك السهل الممتنع .
بعد حديث طال الثلث الأخير من الليل عدنا إلى خيماتنا، وما أن دخلنا فيها حتي قامت موجة من الرياح الباردة تصول وتجول فى المكان ، وكأن الطبيعة كانت تأنس بنا وبحديثنا..
ليلة قارصة البرودة ولكن إرهاق وتعب لا تشعر به إلا عندما تضع جنبك لتنام ، كفيل بأن يجعلك لا تشعر بأي شئ من حولك.
عبد الله ، عبد الله ، صلاة الفجر قمت من نومي أشعر وكأنني لم أنم إلا خمس دقائق ذهبت لأتوضأ كان الريح قوى وبارد . أدينا صلاة الفجر وعدت إلى نومي مسرعاً لم أفق إلا وهم ينادوني للإفطار. لا داعي أن أحكي لكم ثانية عنه أو ماذا فعلت فالإجابة معروفة . جبنة ومربي. بعد الإفطار جهزنا أغراضنا واستعدينا للرحيل جاء الأوتوبيس ووضعنا أمتعتنا وسلمنا على العاملين هناك وودعناهم ثم انطلقنا توقفنا عند عطارة لشراء البلح السيوى وزيت الزيتون والزيتون ، ثم انطلقنا وتوقفنا عند بازار لشراء بعض الأشياء التذكارية، وبعد ذلك انطلقنا نحو مدينة شالي (أقدم مدينة عرفتها سيوة) فهي مدينة مبنية بالكامل على جبل شالي وعندما تصعد إليها تكتشف أنك فى وسط سيوة وأنك ترى من حولك سيرة بأكملها عدنا إلى الأوتوبيس وذهبنا إلى مطعم للغداء ، كان الغداء لذيذا حقا. كنت جالسا بجوار حميدة ، فكانت فرصة لأتعرف عليه، حميدة شخصية غريبة، فشخصية ممزوجة بين الأصالة والحضارة، فهو طيب وخلوق ومنفتح ، فالصحراء أكسبته البكارة بطبيعتها ، وأكسبته إتقان اللغات أيضا من زوارها ، ركبنا الأوتوبيس منطلقين فى طريق العودة الى القاهرة، بعد أن ودعنا حميدة، كنت جالساً بجوار عمرو وتكلمت معه كثيراً وبنيت عنه فكرة شبه مكتملة. ثم إقترح أدم أن يقول كل واحد فينا الإيجابيات والسلبيات وانطباعه عن الرحلة .
اتفقنا جميعاً أن الرحلة كانت ممتعة وأمتع ما فيها هو جو الصداقة والألفة الذى كان يشعرنا دائماً أننا أصدقاء منذ زمن وكان الشئ السلبي الوحيد هو أن الوقت مر سريعاً جداً وانتهت . كانت ابتهال تجلس أمامي فكنا نتكلم ونضحك وفجأة تأكدت أن هذه ليست أول مرة أتعامل مع شخصية ابتهال ، إن شخصيتها كانت تشبه كثيراً شخصية أختي (رحمها الله)، شردت قليلاً وقلت فى نفسى:"آآه منك يا ابتهال لقد لمست جرح قد كدت أشفي من آلامه ، وها أنت الآن تطرقين على قلبي تيقظين ذكريات طويتها بعد معاناة ، فماذا تريدين الآن ، هل أرسلك الله لتيقظي تلك الذكريات الجميلة وتتركيني أعود إلى آلامي مرة أخرى ، أم أرسلها ثانية لي متجسدة فيك . عدت من شرودي وقرأت لأختي الفاتحة ، واستمرينا فى الحديث والضحك والنوم، فكان الواحد منا يصمت قليلاً ثم فجأة نجده نائماً كأنه أغشي عليه وكنا نتساقط واحدا تلو الآخر ثم نفيق وهكذا.قررت أنا وعمرو أن نغنى أعلم أن صوتي ليس جميلاً لكنني كنت فى حالة تستدعي للغناء كنت أغني مستمتعا جداً ولا أدرى هل كان هذا هو تعبيراً ما داخلي عن تلك الأيام الجميلة أم تعبير لكل من حولي أنني قد قضيت وقتاً ممتعاً معهم . طلبنا من منة الغناء ، كنت أعلم أن صوتها جميل ولكن يومها كان ممتلئاً بالشجن والفرح والأنغام فكنت عندما أسرح مع صوتها تجعلني ألامس بإحساسي كل معاني الكلمات. كان طربا وليس غناءاً . بعد ساعات طويلة توقفنا عند "الرست هاوس " فنزلنا ودخلنا ، ولكن حدث شئ طريف جداً ؛ توجهنا نحن الشباب إلى الحمام وعندما دخلنا ووجدناه مرتبا وبه مرايا ، اعتلت علامات الفرح والشوق وجوهنا وصيحنا مهللين فى فرح شديد ، فتعجب العاملون فى المكان. لقد كانت هذه أول مرة لي منذ أربعة أيام أن أرى نفسي فى مرايا ، إنه اختراع جميل حقا لقد كنت على وشك أن أنسي بعض ملامحي ، وتفاجأت حينما تفقدت لون وجهي، لقد كان تأثير أشعة الشمس واضحاً جداً ، لقد تبدل لون وجهي وصرت أسمر اللون.
عدنا إلى الأوتوبيس ووصلنا بحمد الله إلى القاهرة، ثم اندهشنا جميعاً عندما نظرنا إلى سمائها ، كم أنت ملوثة يا بنت المعز، السماء يملأها الدخان والقمر يعاني حتي يظهر، وعندما نزلنا من الأوتوبيس وجدنا أنفسنا يطلق كل واحد فينا "كحة" عندما يأخذ أول نفس وكأنه ترحيب بالعودة وأخذت تاكسي عائداً الى بيتي بعد أن ودعت أحلي وأطيب أصدقاء تعرفت عليهم.
كانت هذه الرحلة من أجمل الرحلات في حيات وستبقي بإذن الله دائماً في الذاكرة والى لقاء آخر في رحلة أخرى إن شاء الله.
من مذكرات مفكر
عبد الله شلبي
28/2/2010
صباحاً 6.48
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق