الخميس، 18 مارس 2010

أيام مع الالهام-- ٢

صعدنا للأوتوبيس وأنطلق بنا حتي وصلنا سيوة مع دقات الساعة التاسعة ثم صعد الى الأتوبيس شاباً يدعي "حميدة" وقال لنا أدم أنه سوف يكون المرشد لنا وسيقضي معنا الفترة كاملة. بدأ حميدة فى التعريف عن نفسه بأنه طالب فى كلية الآداب قسم تاريخ بجامعة القاهرة وعرفنا على عادات أهل البلد، وكان أكثر شئ لفت انتباهي أن لغتهم الأم هي اللغة "الأمازيغية" أو لغة "البربر" . وصلنا إلى مطعم نور الواحة "لتناول وجبة الإفطار، واجتمعنا جميعاً حول "طبليات" وضع عليها صحن صغير من الفول وصحن فيه البيض المقلي " لكل واحد فينا" وصحن آخر فيه قطعة زبدة ومربي ومشنة عيش . كانت شهيتي للأكل مفتوحة وحتي الآن لا أعلم هل كانت شهيتي مفتوحة بفضل الصحبة الجميلة أم بسبب الخوف من عدم وجود أكل بعد ذلك . مع أن الآكل لم يكن شهياً ، فأكلت كل ما قدم لي ثم تناولت أكل زميلتين لم يأكلا وطلبت من المطعم صحن بيض مقلي آخر – أعذروني فالفكرة الراسخة عندى حينذاك أننا مقبلين على صحراء فلن نجد شيئاً نأكله وهذه آخر وجبة لنا وسنظل عليها أربعة أيام ، كان جالساً بجوارى طوني، فتشجعت وبدأت أتكلم معه فسألته "لماذا تسافر كثيراً وهل هذا سفر، لقضاء إجازة ؟ فرد على قائلاً: أنا أعمل معلماً للمصريات ويجب على وأنا أشرح للطالب أن يرى كل ما يقرأه فى كلامي من خلال ما رأيت حتي أساعده على السباحة فى العلم . فقلت له متأثراً "صدقت ، لهذا أنتم متقدمون كثيراً عنا، نحن هنا فقط نأخذ ما يلقن لنا وعندما نحاول أن نستفسر عن شئ يُرد علينا " لأنه هكذا " وكأنما ندرس أشياءً منزلة من السماء!! فابتسم طوني وهز رأسه مصدقاً على كلامي وقال ولكننا دائماً نحاول أن نساعدكم بتصدير جامعتنا لكم ، قلت له "ولكنكم فقط تصدرون لنا الكليات الأدبية سألته بعد ذلك" ماذا يعرف الناس فى أوروبا عن مصر والمصريين؟

قال لي "إنهم يتخيلون أنكم لم تنزلوا من علي الجمل بعد ولم تخرجوا من الخيمة ويتعجبون كثيراً عندما أقول لهم أن عندكم "سيتي ستارز" –وهاتف محمول بل وعندكم قمر اصطناعي فردت عليه" ولكنهم على حق قال لي "كيف قلت " إذا أوقفنا الاستيراد وعاد كل منتج لدينا من حيث أتي لعدنا فى سنوات قليلة إلى ما ما يتخيلونا عليه ، فصناعتنا قائمة على التقليد وليس الابتكار. فقال لي مندهشاً جداً هذا كلام خطير " قلت له متأسفا ولكن الحقيقية "أخطر" .

أنزلنا حقائبنا ووضعناها فى غرفة من غرف الموتيل – (اكتشفت أنه لم يكن مطعما فقط ولكنه موتيل فيه غرف ومطعم وجلسة) بعدها ركبنا جميعً فى الأوتوبيس وانطلقنا نحو معبد الوحي، فى الطريق كانت البلدة صغيرة جداً ولكن منظر البيوت لم يدهشني كثيراً حيث أنني أصلا من قرية ريفية ولكن ما أدهشني حقا هي المناظر الخلابة التي أراها من شباكي المجاور. فالبلدة متحضرة نوعا ما وهذا التحضر مغموسا فى حضارة من آلاف السنين فالسوبر ماركت بجواره مدينة "شالي" أقدم مدينة فى سيوة وهي تقع على جبل شالي ومبنية بالصخر والحجارة وأيضاً تجد فى أهل البلد من يركب منهم سيارة "لاندكروزر" وبجواره من يقود عربة تجرها حمار وزوجته معه ترتدي "البرقع" مثل زى الأفغان بالضبط . وصلنا الى معبد الوحي ، فقال لنا حميدة أن هذا المبعد بني فى عهد الاسكندر الأكبر وبعد ما دخلنا قام طوني بشرح أدق التفاصيل فيه وكأنه زاره من قبل عشرات المرات، التقطنا بعض الصور ثم ذهبنا لنؤدي صلاة الجمعة كان هناك مسجداً صغيراً أمام المعبد فدخلنا وأدينا صلاة الجمعة ثم انطلقنا من جديد ومررنا بحجر أمون وعين كليوباترا وجبل الموتي ثم توقفنا عند عين ونزلنا للاستحمام والاستجمام فيها، الغريب فى هذه العين أن لون المياه شديد الزرقة "سبحان الله " كان وقتا ممتعاً ، أدينا صلاة العصر ثم ذهبنا بعدها الى بحيرة فطناس لنرى الغروب هناك، حيث أجمل ما رأت عيناى من منظر خلاب وبديع.. يا الله ما هذه المياه التي تتحرك بكل استحياء خشية أن يرمقها أحد بنظرة فتظهر وكأنها بساط ثابت وما هذه الشمس التي تسدل خيوطها الذهبية بكل حنية على المياه لتضيف لها لوناً ذهبياً تجعلك ترى شظايا ذهبية متناثرة وليست حبات مياه ، ولكن الأرض أيضاً َتغيرُ من كل هذا الجمال وتخشي أن ينساها الزائر مع كل هذا الإبداع الذى يراه ، فينبت فيها بأمر ربها نخلة مائلة الجزع تطل بفروعها على سطح المياه لتكتمل أمامك صورة لا يمكن أن يمحيها الزمن وتجد كل ما بداخلك يتمتم بورع شديد قائلاً "سبحان البديع سبحان الخلاّق" . التقطنا صورة كثيرة ثم رجعنا للأوتوبيس ليعود بنا الى مطعم "نور الواحة" لتناول وجبة العشاء عندما عدنا لم أحبذ فكرة تناول العشاء فى المطعم فلم يكن الطعام شهياً فى الصباح ، فاقترحت على آدم أنني سأنزل الى البلدة لآكل هناك ، فوافق وطلب مني ألا أتأخر، قلت له سنكون ان شاء الله على اتصال انضم إليّ عمرو منصور ، ووسام ، وأحمد صابرين ، ونرمين وهبة كنا قد سبقناهم أنا وصابرين للبلدة وآتوا هم بعد ذلك كلمت حميدة وعرضت أن يقترح علينا مكان لنأكل فيه فرشح لي مطعم "أبو أيمن" ذهبنا قاصدينه جلسنا وطلبنا كباب وكفته، فرد "أبو أيمن" قائلاً"لأ هاجيبلكم فراخ مشوية" فابتسمت وقلت واضح أنك متخصص فيها، وإحنا موافقين صليت المغرب بركن بالمطعم وبعد قليل بدأت تتوافد علينا الصحون ممتلئة بالسلطات ثم الأكل ورائحة الأكل أخذت بتحفيز هرمونات الجوع وانزيمات الأكل فانصب كل واحد فينا يأكل وتظهر على وجوهنا وأصواتنا علامات الإعجاب الشديد بالأكل. لم تأكلا هبة أو نرمين ولم أعرف لماذا ، فهل هذا خجل البنات من أن يأكلا أمام الشباب ؟ خاصة أن الأكل لا يمكنك من استخدام الشوكة والسكينة ، فأنا أشك تماماً فى فكرة انهن كانتا شبعانتان ، لأن رائحة الأكل ومنظرنا ونحن نلتهم بشغف شديد كانا كفيلين بأن يفتحا شهية أي أحد.

فرغنا من الطعام ، وأصابتني كعادتي تخمة الأكل ، فأنا دائماً أشعر بعد الأكل وكأنما ألقي عليّ حجر ، دفعنا الحساب وذهبت لأشترى بعض العصائر وزجاجات المياه ، حيث اتصل بي آدم وقال لى أن نشترى كل ما نحتاج اليه لأننا لن نعود الى البلدة إلا فى اليوم الأخير ، ذهب الآخرون لركوب الدراجات ولكنى كان فيّ من طاقة فقط ما يحملني سيراً لأعود من حيث أتيت. وصلت الى الموتيل فوجدت الجميع جالساً فى الخارج ، فرقص قلبي بداخلي فرحاً، فهذا أفضل وقت أختلي فيه بالغرفة وآخذ دشاً يعيد لي نشاطي، دخلت إلى الغرفة فلم أتمالك نفسي من الفرح ، وكأنها فرحة المحتل حينما يطرد الغزاة من أرضه فخلعت ملابس عنّي وشربت عصيرا انعشني وبقيت أرقص وأغني بضع دقائق وأنا بسروالي الداخلي ثم انتابتني كريزة ضحك حينما رأيت نفسي بالمرايا، وبعدها دخلت للاستحمام ، وغيرت ملابسي فعاد لوجهي إشراقته وعاد لجسدى طاقته. رتبت أغراضي وخرجت لأجلس معهم فى الخارج ، فسألني البعض ماذا كنت أفعل طيلة كل هذا الوقت بالداخل ، فابتسمت قائلاً أبداً ولا حاجة "ما هي إلا بضع دقائق حتي وضعنا أغراضنا فى عربة حميدة "النصف نقل" وصعدنا الى الأوتوبيس واتجهنا نحو المعسكر.

كلما اقتربنا من المعسكر ، زادت الصحراء من حولنا اتساعا واختفي بنو البشر واختفت الحياة من حولنا ، وكثرت النجوم فى السماء ، فلمعت عيناي متأملاً كل هذا الكم الهائل من النجوم الذى لم أرى مثله فى حياتي ، فأنا من سكان عاصمة التلوث والسحابة السوداء ، فأنا أكاد أرى القمر ، فماذا تتوقع أن أفعل حينما أرى كل هذا الكم من النجوم "سبحانك يارب " .

وصلنا الى المعسكر ، وتوقف الأوتوبيس بعيداً نوعاً ما حتي لا يغرس فى الرمال، نزلنا جميعاً وتوجهنا نحو سيارة حميدة لنحمل حقائبنا ، أضاء كل واحد مناّ كشافه ، وسرنا حاملين حقائبنا شاردين الذهن، نحاول أن نتخيل ما سنجده بالداخل. ما هي إلا بضع خطوات ودخلنا المعسكر فوجدنا مشاعل النار تضئ لنا الطريق وفى الوسط كان هناك "قعدة عربي" محاطة بثلاثة أعجاز من النخل كمساند للظهر ومفروش فى وسطها"الكليم" وعلى يسارنا مبني مضاءاً فى شباكيه شمعتان، مطموس الملامح لم نعلم حتي تلك اللحظة ما هو (تبين لنا بعد ذلك أنه الحمام). وجهنا رجل يدعي "إبراهيم" نحو خيمتنا وكانت خيمة البنات فى الجهة المقابلة لنا. كانت خيمتنا كبيرة جداً ، مفروشة أرضها بالقماش الرث وليس بداخلها أي شئ سوى بعض الشمعات اللاتي تضيؤنها. وضعنا أمتعتنا وصلينا العشاء وكنا نسمع رقع طبله يأتي من جوارنا فتوجهت بعد الصلاة انا وعمر منصور الى مصدر الصوت ، فوجدنا مجموعة من الشباب والبنات وتعرفنا عليهم . كان من الجميل هنا هي الروح التي يطفيها المكان على الأشخاص فلم نأخذ ثواني حتي تعرفنا على معظمهم وعرفنا أنهم من "الإسكندرية" تبعنا باقي أفراد مجموعتنا من الشباب، طلب عمرو منهم الطبلة فأعطوه واحدة أخرى وجلس هو وواحدة منهم يلقبونه بـ "طوني" وأخذا فى التطبيل والتقسيم بشكل ممتع وشكلنا حولهم دائرة وبدأنا فى التصفيق . كان وقتا مرحاً وألفة جميلة وصداقة سريعة . بعد ذلك تركناهم وذهبت مجموعتنا نحو "القاعدة العربي" وانضم الينا هبة وأختها نرمين (من مجموعتنا أيضاً) . وغنينا أغاني كثيرة ثم أنضم لنا رجل من أهل البلد يدعي "عبده" وحميدة أيضاً واثنان آخرين وجلسوا معنا وأخذوا هم جانب الغناء . فسرعان ما انضم إلينا مجموعة الاسكندرانية. وكنت مستمتعا جداً بالأغاني السيوية والأغاني العرباوية ثم قمت للرقص على ضفاف تلك الألحان لأحلق فى عالم آخر وأبعد عن الأرض لمدة دقائق فكانت الألحان جميلة والصوت شجن والألفة طاغية ، حقاً كان وقتاً جميلاً. أعلم أنني عندما قمت للرقص كان شئ مدهشاً بالنسبة لأقراني حيث كان راسخاً عني لديهم أنني شاب هادئ وهذا كله كان من الانطباع الذى أخذوه عنى فى أول الرحلة . ولكن كل هذا لا يهم ، لقد كنت اعيش لحظات أشعر وكأنني أرفرف ... ولكن فقط ما هي إلا لحظات .

عرفت بعد ذلك أن بالمعسكر عين ساخنة قد ذهب البعض للنزول فيها ولكنني كنت متعباً فلم أحبذ الفكرة، انطلقت الى الخيمة بعدها وجهزت"فرشتي" لأخلد إلي النوم ، ما هي إلا ثواني ولم أشعر بشئ وغصت فى نوم عميق جداً كم كنت مرهقاً ومتعباً ، كانت نومه بلا أحلام ولا حراك.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق