الثلاثاء، 17 أبريل 2012

بدون عنوان


مازلت أتذكر تلك الأيام التى انضممت فيها لحملة البرادعى، و أول مقابلة بينى و بينه. مقابلة غيرت مجرى حياتى و أعادت تشكيل فكرى و عقلى. انبهرت من أداء البرادعى فى حديثه الذى امتاز بالثقة و كأنه معه وعد من الله أن الثورة قادمة و التغيير آت لا محالة. لا أنكر أننى كثير استشعرت أنه رجل حالم موهوم جاء من بلاد الفرنجة لا يعلم شئ عن طباعنا، قضى معظم حياته بين الخواجات ذوى التعليم المتقدم و الأفق المدركة، و المدارك الواسعة، و لا يعلم أننا هنا نتخرج من جامعات و كليات قمة لا نستطيع أن نقرأ مقالة عربية دون أن أن نخطئ في الاملاء و الصرف. و لكن كان كل يوم يثبت لى أنه يعرف عنا ما لا نعرفه و يقرأ الطالع و المستخبى كعراف أفريقى قضى حياته كلها فى التنجيم.

بدأ التحليل السياسى يشغل تفكيرى و أهتم به، شعرت بغيرة حقيقية من البرادعى، كيف له أن يستطيع أن يقرأ الأحداث و يصل النقاط و يحل الألغاز و الشفرات، و يستنتج لنا الحدث قبل وقوعه. حتى أننى من كثرة غيرتى منه قررت ذات يوم أن أترك الطب و ألتحق بكلية الاقتصاد و العلوم السياسية؛ فكانت الصدمة مدوية فى أرجاء المنزل، و بدأت أمى تلوم و تلعن اليوم الذى عاد فيه البرادعي الى مصر سرا و جهرا. حاول أبى أن يتدارك الموقف و ينصحنى بالانشغال بدراسة اطب فهى الأبقى و لكنه كان يعلم فى قرارة نفسه أن ابنه لن يهدأ له بال طالما وضع هذا الأمر فى دماغه. فبحث عن مخرج لهذا المطب حتى وجد أن الحل الجذرى أن أدرس السياسة حق دراستها ثم أتعمق فيها حتى أكتسب القدرة و المهارة فى فن التحليل السياسى.

كانت هناك دبلومة للراغبين فى الالتحاق بوزارة الخارجية كديبلوماسيين و سفراء، فقدمت فيها و التحقت بها، لأكتشف بعد ذلك أنها دورة مكثفة لكلية الاقتصاد و العلوم السياسية. فدرست فى هذه الدورة الاقتصاد السياسى و الدولى، و القانون الدولى، و العلاقات الدولية و الاقليمية، و أهم العقود و الاتفاقيات الاتفاقيات التى أبرمتها مصر، و دول حوض النيل و مشاكله، و علاقات مصر بالدول العظمى، و ملف القضية الفلسطينية، و الملف النووى الايرانى، و آخرون.
من أكثر المحاضرين الذين تأثرت بهم كانا الدكتور فخرى الطهطاوى، و السفير رخا حسن؛ فالدكتور فخرى الطهطاوى حرص على تعليمنا هرم التفكير الادارى للدول، و كما حرص السفير رخا حسن على تفهيمنا كيف تدار الأزمان و يدار العالم. كان السفير رخا حسن له نظرية اعتنقتها بعد أن استوعبتها، و هى: "لكل زمان امبراطورية، و عليك التسليم بهذا الأمر، دونما التفريط فى كرامة شعبك أو الافراط فى معاداة تلك الامبراطورية". و كان يطلق على واشنطن لفظ "الأستانة" نسبة الى الامبراطورية الأمريكية الحالية.

استوقفنى كما استوقف معظم المصريون حول العالم مشهد السباق الرئاسى العبثى، و ترك أبو اسماعيل لصرف كل هذه المبالغ على الدعاية ثم ظهور موضوع جنسية والدته التى لم تسفر التحقيقات عن ثبوتها أو نفيها الى الآن، ثم أنباء عن ترشح الشاطر عن جماعة الاخوان التى وعدت سابقا بعدم ترشيح أى عضو لها للرئاسة، يليه ترشح رئيس المخابرات السابق عمر سليمان رغم اعتذاره قبلها بيومين فقط!!!.ثم بعد كل ذلك قرار اللجنة العليا للانتخابات باستبعاد هؤلاء الثلاثة (الأكثر ضجيجا) مع سبعة مرشحين آخرين. 

بدأت حينها أتذكر كلمات السفير رخا حسن عن الامبراطورية الأمريكية، و أننا فى الآخر ولاية من الولايات، و الناظر المتعمق فى الفترة السابقة منذ أن تولى المجلس العسكرى ادارة البلاد يستشف بكل سهولة، أن هذا العقل الذرى الذى دفع بسليمان للترشح ثم أخرجه و فى يده اليمنى الشاطر و الأخرى أبواسماعيل، لا يمكن أن يكون أحد العقول التى عرفناها فى تلك الفترة التى اتسمت بالتخبط و التيه، و عدم القدرة على قراءة الحاضر و التخطيط للمستقبل. و تذكرت لقاءات السيناتور جون ماكين، و جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي، فضلا عن الاجتماعات العديدة السرية التى جمعت بين أعضاء من المجلس العسكرى و مراد موافى مدير الاستخبارات المصرية و جيمس كلابر مدير الاستخبارات الأمريكية؛ فبدأت تتكشف أمامى الصورة بعض الشئ. و لكننى الى الآن لا أستطيع أن أحدد هل قبلت الادارة الأمريكية أن يطبق فى مصر الرؤية الباكستانية - التى تعنى أن المجلس العسكرى هو الحاكم الأعلى للبلاد و هو من يحدد الميزانية العامة و أن الحكومة حزبية و هى بمثابة المدير التنفيذى للدولة - كما يحلم و يتمنى المشير طنطاوى، أم سيتم تطبيق الرؤية التركية الأتاتوركية و يتقلد الجيش دور حامى الشرعية الدستورية؟، خشيت عندما ترشح عمر سليمان أن يكون تم طرح رؤية جديدة لمصر و هى الرؤية الباكستاروسية أى أن المخابرات تدخل لاعب أساسى فى دور ادارة البلاد مع المجلس العسكري، و يصبح منصب رئيس الجمهورية حكرا على مؤسسة المخابرات كما فعل فلاديمير بوتين فى روسيا.

على صعيد آخر، كنت قد بدأت فى دراسة و تفنيد البرامج الرئاسية للمرشحين المحتملين، و هالني تلقيب بعض المرشحين لأنفسهم بــ "مرشح اسلامى"، لكننا نجد بكل وضوح أن السنة النبوية قد حذرت من طلب الإمارة بجلاء وتفصيل في أكثر من حديث للنبي r_20.jpg لأكثر من صحابي، فنراه r_20.jpg قائلا لعبد الرحمن بن سمرة t_20.jpg في حديث أخرجه الإمامان البخاري ومسلم: "يا عبدالرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها". ونراه r_20.jpg قائلا للصحابي الجليل أبي ذر t_20.jpg بعد ما سأله الإمارة: "يا أبا ذر، إنك ضعيف وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها". ويقول: "مامن أمير يلي أمر المسلمين، ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة". وفي حديث آخر يتحدث r_20.jpg عن الإمارة الصغرى: "ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولا لا يفكه إلا العدل أو يوبقه الجور". و كما قال عمر بن الخطاب ناصحا ابنه عبدالله "كفى بآل الخطاب أن يحاسب واحدا منهم عن الأمة" أو كما قال رضى الله عنه. فهل يتخيل واحد من هؤلاء المتأسلمين أنه قبل أن يضع لقمة فى فمه عليه أن يتأكد أن آخر رجل فى شلاتين عنده قوت يومه، و قبل أن يضع الغطاء على جسده في آخر الليل محاسب عن كل فرد ينام فى تلك الليلة بردانا  لا يملك غطاء. و الله لو فكر كل واحد منهم لدقيقة واحدة من هذا المنطلق ما وجدنا أحد على قائمة المرشحين (أنفسهم) للرئاسة.

و ما صدمنى أكثر، افتقار جل برامج المرشحين لقضية مياه النيل و ملف مشكلات حوض النيل التى ظلت المخابرات المصرية تديره طيلة ١٥عام و أثبتت بجدارة فشلها فيه. و المصيبة الكبرى أن ما يرمى عليه الآن الدول الاستعمارية هى قضية المياه و ظهر هذا متجليا في فيلم الرسوم المتحركة "رانجو"، فقال رئيس العصابة "تحكم فى المياه، تسخرهم لك و تتحكم فى حياتهم". و ايانا أن نتصور أن للعلم الحدود أو أنهم لن يستطيعوا فى يوم من الأيام أن يجعلونا نبتهل و نتضرع الى الله باكيين من العطش و نحن نرى مياه النيل تصب فى المحيط الهندى.

كانت تلك السطور بعض من الأفكار المبعثرة فى أروقة عقلي لهذا لم أجد لها عنوان أنسب من "بدون عنوان"