السبت ٢٩ يناير ٢٠١١،
شارع الشيخ ريحان، محيط وزارة الداخلية المصرية
شقشق فجر يوم جديد، بعد أن اجتاز الثوار حاجز الخوف من الموت و اقتحموا ميدان التحرير، معلنين انهاء عصر الظلم و الظلام، ٢١ ساعة و لم تزل المعركة دائرة على أشدها علي خطوط العدو. ثوار لا يملكون الا الإيمان و الهتاف، و طغاة تمدهم سيارات الاسعاف كل ربع ساعة بأسلحة و ذخيرة.
أقف تارة أفكر و تارة أضمض جراح من يصابون و تارة أهتف و تارة ... و تارة.....، مزيج من الحالات تجتاحني و أنا أخوض تلك التجربة التى لم تكن حتي لتخطر على بال بشر.
هدأ الميدان قليلا و تراجع جنود هامان الى الشوارع المؤدية الى وزارة الداخلية، ثم هدأتالأجواء تماما بعد برهة من الوقت، و بعد أن أخذت قسطا من الراحة، توجهت نحو شارع الشيخ ريحان لأقف على أخر مستجدات الموقف.
شارع محمد محمود لم يكن ساحة معركة فحسب و لكن كان منظره أن قذائف ثقيلة متعددة سقطت عليه. فواجهات المحال مهشمة و الأسفلت محترق، و دخان يصعد من أماكن كثيرة و متفرقة، و الهواء مشبع بالغاز المسيل للدموع.
وصلت الي مقصدى، فوجدت شباب واقف يهتف و آخرين مستلقين على ظهورهم في الشارع و علي الأرصفة من شدة الجهد و الاعياء و آخرين يحاولون اسعافهم. باشرت معهم مهمتى الأساسية كطبيب و بدأت فى انعاش الواحد تلو الآخر، مضى الوقت هادئا و لم يتبقي من المصابين الا اثنين - كما أتذكر.
فجأة و بلا أى مقدمات و جدت مجموعة كبيرة من الشباب يهرولون علينا من أمام مبنى الوزارة فى حالة من الجنون و الفزع !، ثبت فى مكانى مسندا ظهرى الى الجدار أتساءل ماذا يحدث ؟؟، لم أسمع أى صوت اطلاق نار أو قنابل، و لم يتبقى أى عسكرى فى الشارع حتى تكون هناك مواجهات !! ، وجدت فتاة تمر بجوارى مسرعة ثم توقفت و عادت صارخة فى وجهى "بقولك اجرى ، اجرى بيضربونا بقناصة"، "قناصة" لمعت عينتاى متسائلا "احنا وصلنا للقنص ؟؟، ايه التخريف ده؟!"، و لم أكمل الجملة حتى وجدتها ممددة يداها نحو كوفيتي لتجرنى منها حتى أركض.
بدأت فعلا بالركض معها، و مازلت لا أستوعب هل كلامها صدق أم هى حالة من حالات الفزع الزائد. سمعت صوت يأتى من خلفى كشئ يرتطم بشدة على الأرض، فنظرت فوجدت شابا سقط بالفعل على وجهه، فوقفت ، فنظرت تلك الفتاة الىّ صوب عينيّ و قبل أن تنطق ببنت شفه صرخت فى وجهها "مش هسيبه اجرى انتى ، مش هسيبه اجرى قلتلك"، عادت الفتاة للركوض و سرت وحدى عكس تيار البشر المتدافع حتى وصلت اليه، و جدته يتألم بشدة، و كان يرتدى بلوڤرا أسودا، فلم يظهر عليه أي علامات نزيف، لم أستطع اسعافه فى المكان من الزحام و لم أستطع أن أوقف أحدا من الراكضين من شدة فزعهم و تدافعهم، ظللت أحاول حتى حملته محتضنه في صدرى، و بدأت أحاول السير بظهرى، حينها كنا أنا و هو الوحيدون فى الشارع و لكن ساعدتنى قلة حجمه بالنسبة الىّ من السير بسرعة بضع الشئ.
حاولت أن أخفف من ألمه و أنا حامله فهدأ و ابتسم الىّ، و كنت كلما نظرت فى وجهه رأيته ناظرا الىّ بنفس الابتسامة، كأنما يحاول أن يخفف عنّى أو يشكرنى، وصلت الى شارع جانبى بجوار بقالة "القواسمى" فوضعته على الرصيف و قلت له "ها يا عم ايه اللي بيوجعك ؟، أدينا وصلنا" فلم يرد عليّ، فتفحصت وجهه وجدته مازال مبتسما اليّ، فابتسمت و قلت له "انطق بقي خلصنى ورايا مصابين تانيين غيرك" فلم يرد علىّ الا بابتسامته ذاتها، مسكت بيده لأفحص نبضه، فلم أجد، و كذلك رقبته، كشفت صدره لأستمع لقلبه مباشرة، اذ بى أفاجأ بفتحة فى منتصف صدره، قلبته على ظهره فوجدت فتحة مقابلة لها.
لم أصدق، و انتابنى حينها صدمة هيستيرية فانقضت عليه بكلتا يداى ممسكا برقبته صارخا فى وجهه "متموتش مننى، بقولك متموتش مننى، احنا وصلنا خلاص" و استمريت في الصراخ حتى هرول علينا الناس يحاولون سحبى من فوقه و تهدأتى. جلست بجواره على الرصيف أبكى، ثم أتت سيارة اسعاف حملته بداخلها و لم أعرف حتى اسمه الى الآن !!
عام على الحضن الذى حملنى أمانة دم و ثأر فى رقبتى موقعا عليها بابتسامة، عام مضى كلما تذكرت هذا المشهد تنفجر عيناى بالدموع دون سابق انذار، عام على الحضن الذى جعلنى أخشى الموت حتى لا أقابل صاحبه من غير أن أكون أعدت له حقه، عام على الحضن الذى تمنيت أن أستشهد بجوار صاحبه قبل أن يحملنى ذلك العهد. عام مر دون أن يأتى حقه أو حق أحد في تلك الضيعة التى نعيش فيها، و يا ترى كم عام سيمر علينا بنفس الحال؟!!
عام على حضن ليتني ما احتضنته !!!
عبدالله شلبى
الخميس ١٢ يناير ٢٠١٢
٠٧:٤٠ مساءا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق